الأربعاء، 22 مايو 2013

أمثلةٌ ساميةٌ في النزاهة

تشتكي كثيرٌ من المجتمعات من عدم النزاهة في أداء الأعمال المنوطة ببعض الموظفين، وبما أنَّ النزاهة تكتسب أهميةً كبرى، كان إلقاء الضوء عليها مهمّاً؛ لتحسين تأدية الأعمال والتعامل معها كما ينبغي، والنزاهة متعلقةٌ بأمورٍ منها الأمانة والإخلاص وإتقان العمل والابتعاد عن المعاملات المحرمة، والتورع عن الشبهات والتفطُّن لدقائق يُتجنَّب من خلالها الوقوع في شرَكِ شباك عدم النزاهة بأصنافها، قال الماوردي: النزاهة تكون عن المطامع الدنيَّة ومواقف الريبة، وللنزاهة نوعان هما: النزاهة عن المطامع الدنيَّة، والثاني: النزاهة عن مواقف الريبة، فأمَّا المطامع الدنيَّة، فلأنَّ الطمع ذلٌّ، والدناءة لؤمٌ، وهما أدفع شيءٍ للمروءة، والباعث على ذلك شيئان: الشَرَه، وقِلَّة الأنفة، فلا يقنع بما أُوتي وإنْ كان كثيراً، لأجل شرهه، ولا يستنكف مما مُنع وإنْ كان حقيراً، لقِلَّة أنفته، وأمَّا مواقف الريبة فهي التردد بين منزلتي حمدٍ وذمٍّ، والوقوف بين حالتي سلامةٍ وسقمٍ، فتتوجه إليه لائمة المتوهمين، ويناله ذِلَّة المريبين، وكفى بصاحبها موقفاً، إنْ صحَّ افتضح، وإنْ لم يصح امتُهن، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) أدب الدنيا والدين ص 314-315، ومن الأمثلة على النزاهة ما رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: (اشترى رجلٌ من رجلٍ عقاراً له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرَّةً فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض، ولم أبتع منك الذهب، فقال الذي شرى الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، قال: فتحاكما إلى رجلٍ، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولدٌ؟ فقال أحدهما: لي غلامٌ، وقال الآخر: لي جاريةٌ، قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسكما منه وتصدَّقا) مسلم 1721، ومن الأمثلة على النزاهة أيضاً ما رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أنَّه ذكر رجلاً من بني إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أنْ يسلِفه ألف دينارٍ فقال: ائتني بالشهداء أُشهدهم، فقال: كفى بالله شهيداً، قال:فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، فدفعها إليه على أجلٍ مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركباً يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجَّله فلم يجد مركباً، فأخذ خشبةً فنقرها فأدخل فيها ألف دينارٍ وصحيفةً منه إلى صاحبه، ثم زجَّج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللهم إنَّك تعلم أني كنت تسلَّفت فلاناً ألف دينارٍ فسألني كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيداً، فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بذلك، وإني جهدت أنْ أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلمَّا نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قَدِمَ الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار فقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركبٍ لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إليَّ بشيءٍ؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه، قال: فإنَّ الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف الدينار راشداً) البخاري- الفتح 4 (2291)، ومن نزاهة أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه ما روته ابنته الصديقة أمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان لأبي بكرٍ غلامٌ يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيءٍ فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: وما هو؟ قال: (كنت) تكهنت لإنسانٍ في الجاهليَّة، وما أُحسن الكهانة، إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، قالت: فأدخل أبو بكرٍ يده فقاءَ كلَّ شيءٍ في بطنه) البخاري- الفتح 7 (3842)، ومما ذكره الماوردي عن نزاهة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، أنَّ الحسن قال: (بينما عمر بن الخطاب يمشي ذات يومٍ في نفرٍ من أصحابه، إذا صبيَّةٌ في السوق يطرحها الريح لوجهها من ضعفها، فقال عمر: يا بؤس هذه، من يعرف هذه؟ قال له عبدالله: أو ما تعرفها؟ هذه إحدى بناتك، قال: وأيُّ بناتي؟ قال: بنت عبدالله بن عمر، قال: فما بلغ بها ما أرى من الضيعة؟ قال: إمساكك ما عندك، قال: إمساكي ما عندي عنها يمنعك أنْ تطلب لبناتك ما تطلب الأقوام، أما والله ما لك عندي إلا سهمك مع المسلمين، وسعك أو عجز عنك، بيني وبينكم كتاب الله) الورع لابن أبي الدنيا (114)، ويقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم: إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف) طبقات ابن سعد 3/ 276 و313، لقد ضرب المسلمون أروع الأمثلة في النزاهة فلا تضاهيهم فيها أمةٌ من الأمم، أرأيتم خليفةً بيديه خزائن بيوت مال المسلمين، يأمر فيها بما يشاء، يرى ابنته تتهاوى من الضعف لا يعطيها ما يُقوِّم به ضعفها؛ لتصبح مثل قريناتها!! تحريّاً منه للعدل بين الرعيَّة، فليس لأهل بيته خصيصةٌ دونهم -رضي الله عن عمر وجمعنا به في الجنة- وإني ما سقتُ هذه الأمثلة السامية إلا سعياً في إحياء خُلُق النزاهة في النفوس وحثّاً وتذكيراً بأهميَّته ولبيان ما عند المسلمين من القدوات الذين سبقوا بهم الأمم فضلاً ونبلاً.
فأنت أيُّها الموظف والمسؤول كن نزيهاً في عملك، وأدِّ الأمانة التي تحمَّلتها، واحذر من كلِّ ما يخدشها، أو يطعن فيها، فأنت خصيم نفسك، وما وُضعت إلا لخدمة غيرك، فإيَّاك أنْ تستغلَّ منصبك في عملٍ تبوءُ بإثمه غداً فتندم.


http://www.alsharq.net.sa/2013/03/24/775830

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق