الأحد، 26 مايو 2013

إلا عقوق الوالدين يا هؤلاء ( تعقيب على مقال د. عبدالرحمن العشماوي ) وفقه الله

سعادة رئيس تحرير جريدة الجزيرة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
قرأت مقالاً للدكتور عبدالرحمن العشماوي في الزاوية التي عنون لها ب(العقوق ودموع الأم) في العدد رقم (13255) وقد تحدث عن الاتصال الهاتفي الذي تلقاه من أم مفجوعة من عقوق ابنها، وإن هذه القصة لتذرف لها دموع حرّى من ابن عاق قابل إحسان والدته بالإساءة، هذا بلا شك نكران للجميل وعصيان لرب العالمين، وإني أخاطب هذا الابن وكل ابن عاق أن يتقوا الله وأن يرجعوا إلى حيث أمر الله، فالله سبحانه وتعالى نهانا عن عقوق الوالدين قال تعالى: { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} الآية، قال العلامة عبدالرحمن ابن سعدي - رحمه الله - وهذا أدنى مراتب الأذى، تبة به على ما سواه، والمعنى لا تؤذهما أدنى أذية(1)، وقال عطاء ابن أبي رباح - رحمه الله - في قوله تعالى: { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} أي: لا تنفض يدك على والديك(2). كما أن العقوق من أكبر الكبائر ففي الحديث الذي رواه أبو بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله. قال: ثلاثاً: الإشراك بالله وعقوق الوالدين. وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يقولها حتى قلت لا يسكت)(3). فالعقوق أمره خطير وشأنه عظيم، وقد حذر عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - من مصاحبة العاق فقال لابن مهران: (ولا تصحبن عاقاً فإنه لن يقبلك وقد عق والديه)(4)، ولا ريب أن العقوق يحدث خللاً في المجتمع حيث إنه من أعظم أسباب التفكك الأسري الذي بدوره يجعل اللحمة الاجتماعية في حالة اضطراب وتفكك مشين، فليحذر الذين يعقون آباءهم أو من هم مقصرون تجاههم من العقوبة التي توعدهم الله بأنه لا ينظر إليهم يوم القيامة عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنّانُ بما أعطى)(5)، وليحذر العاق من العقوبة المعجلة له في الدنيا، قال - صلى الله عليه وسلم -: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) أخرجه الإمام أحمد، فالتوبة التوبة يا من عققت والديك ما دمت في زمن المهلة، عد لرشدك فأحسن صحبتهما وبرهما امتثالاً لأمر الله سبحانه، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالله جل وعلا أمر بعبادته وتوحيده وجعل بر الوالدين مقروناً بذلك، كما قرن شكرهما بشكر الله، فقال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}وقال سبحانه: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}، ويقول الله عز وجل: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}الآية، وقال تعالى: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إحسانًا} الآية، كما إن بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها) قال: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين)، قال: ثم أي قال: (الجهاد في سبيل الله)(6)، ولعظم فضل بر الوالدين فإنه مقدم على الجهاد في سبيل الله إذا لم يكن متعيناً (أي فرض عين) عن معاوية بن جهامة السلمي - رضي الله عنه - قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله: إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة. قال: (ويحك أحية أمك؟) قلت نعم. قال: (ارجع إليها فبرّها)، ثم أتيته من الجانب الآخر، فقلت يا رسول الله: إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة. قال: (ويحك أحيّة أمك؟) قلت نعم. قال: (ارجع إليها فبرّها)، ثم أتيته من أمامه فقلت يا رسول الله: إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة. قال: (ويحك الزم رجلها فثم الجنة)(7)، كما إن البر يزيد في العمر، عن ثويان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القضاء إلا الدعاء)(8)، والوالدان هما أحق الناس بحسن الصحبة فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: (أمك) قال ثم من؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (ثم أبوك)(9)، ورضا الله في رضا الوالدين عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)(10)، فهذه الأحاديث الشريفة كلها تحث على بر الوالدين فاحرص رعاك الله على فعل ما أمرت به قال الشاعر:
عليك ببر الوالدين كليهما
وبرّ ذوي القربى وبرّ بالأباعدِ
فيا من قصر تجاه والديه حاسب نفسك وانتبه عن تفريطك وتقصيرك، والزم طاعة والديك وأحسن إليهما كما أحسنا إليك صغيراً، ولا تقدم طاعة غيرهما على طاعتهما ما لم يكن إثماً، لا ترفع صوتك عندهما ولا تتصرف تصرفاً يغضبهما، ولا تمش أمامهما، وكن واصلاً لهما مودداً إليهما طالباً رضاهما، ولا تحد النظر إليهما قال مجاهد - رحمه الله -: (ما بر والديه من أحد النظر إليهما)، واعلم أنه مهما عملت وستعمل لوالديك من أمور البر فلن توفهما حقهما، وأنى لك بسداد دينهما عليك، وهما يضاعفان دينهما بدعائهما لك وخوفهما عليك ومحبتهما لك، وإني أحذرك من زوجة السوء التي تسعى للتفريق بين المرء ووالديه وأحدهما، فتجد بعض الأبناء هداهم الله لا يلبي طلب والديه إذا أمراه أو أمره أحدهما بقضاء حاجة يريدانها، وفي المقابل لا يرد لزوجته ما تطلبه بل يسعى جاهداً لإرضائها، وليس عيباً وخللاً أن يعاشر الرجل زوجته بالمعروف، بل الإثم في عدم خدمة الوالدين أو أحدهما متى ما طلبا شيئاً منه لأن الواجب عليه طاعتهما في كل ما يأمران به، أما الزوجة فليس واجباً عليه أن يطيعها في ما تأمر به بل الواجب أن يعاشرها بالمعروف، وكذلك الواجب على المرأة أن تطيع زوجها إذا أمرها بأمر لا معصية فيه وتأثم بعصيانها له، وإن مما يكدر الخاطر ويبعث في النفس الحزن ما يسمع ويقرأ من أن بعض الناس يقدم أمر زوجته على أمر والديه، وكذلك إهمال بعض الأبناء شأن والديهم بسبب تسلط زوجاتهم فحسبنا الله ونعم الوكيل، ومن عظيم شأن الوالدين أنه يجب الإحسان إليهما والرفق بهما ولو كانا مشركين، مع عدم طاعتهما في أي معصية قال تعالى: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.
وهذه أم أحد الأئمة وهو حيوة بن شريح كانت تقول له وهو جالس لتعليم الناس: قم يا حيوة فألق الشعير للدجاج، فيقوم من مجلسه ذاك طاعة لها وبراً بها مع ما هو فيه من الخير من تعليم الطلاب لعلمه أن طاعته لوالديه مقدمة على نوافل العبادات، فلله دره - رحمه الله -، ومن الفوائد المترتبة على بر الوالدين أنه دليل على كمال الإيمان وحسن الإسلام، وأنه من أفضل الطاعات وطريق موصل للجنة، ويرفع الذكر في الدنيا وفي الآخرة، وأن من بر بوالديه بر به أبناؤه.
وختاماً أوصي نفسي وأوصيكم بالبر بالوالدين وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا بارين بهما مطيعين لهما كما أمرنا.
(1) تفسير السعدي
(2) تفسير ابن كثير
(3) رواه البخاري واللفظ له، ومسلم
(4) المستطرف
(5) رواه النساني وقال الألباني حديث حسن صحيح
(6) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
(7) رواه النسائي والإمام أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.
(8) أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن غريب وابن ماجه وهذا لفظه وحسّنه الألباني والحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(9) رواه البخاري ومسلم.
(10) رواه الترمذي وصححه الألباني.
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق